الأدب
الإسلامي
العناية
بالخط في القديم
[
2/3 ]
بقلم
: معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض
، المملكة العربية السعودية
هذه هي العدة التي كانوا يتسلحون بها للكتابة، تعلو قيمتها حسب المادة التي صنعت منها، والخطاط الذي استعملها ، جزء من ثمنها للمعدن الفاخر، وجزء لملكية الفنان الذي استعملها ، جزء من ثمنها للمعدن الفاخر، وجزء لملكية الفنان الذي استعملها فترة . وإن ما يعرض من هذه الأشياء في المعارض والمتاحف يدل على عناية وذوق ، ويدل على أنهم أهل فن راق ، وليس عملهم للزينة والمنظر فقط ، ولكنه للفائدة والاستعمال قبل ذلك؛ وجماله ، ونبل المادة المصنوع منها ، تعطي لذة عند الاستعمال وترفع درجة الحماس للعمل وإتقانه ، وإبعاد التعب ، أو الركون إلى الاعتذار أو مبررات الراحة ، وهذا مثل المكتب الجميل ، والكرسي المريح في زماننا ، فإنهما يساعدان على رفع معنوية العامل ، ويبعدان عنه التعب ، لأنهما يمدانه براحة جسمية ومعنوية .
أما
عن ابن البواب الذي مرّ بنا ذكره فالنص التالي يكشف عن أهميته في فنه :
ورد
في ترجمة ابن البَرَفْطي محمد بن أحمد الأنصاري الدِّسكري :
«كان
في أول أمره معلمًا ، فلما جاد خطه صار محررًا . وكان يُبالغ في أثمان خطوط ابن
البواب ، فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره ، وُجدت عنده أكثر من عشرين قطعة بخطه
أرانيها».(1)
هذا
يؤكد أن خطوط المشهورين تباع كما تباع التحف ، وبأثمان باهظة ، وهناك من اتخذها
تجارة ، ولعله كان يتصيد الشارد منها ، حتى أصبح عنده – كما يقول الراوي – مجموعة
منها .
وفي
موضع آخر من ترجمة الدسكري يقول ياقوت :
«ومات
– رحمه الله – في أول رجب سنة خمس وعشرين وست مئة ، وخلف خمسة وعشرين قطعة بخط ابن
البواب لم تجتمع في زماننا عند كاتب ، وكان يغالي في شرائها».(2)
وكان
الخطاط له مريدون ، وينتقل أحيانًا من بلد إلى بلد كما فعل الدسكري عندما سافر إلى
دمشق وإلى حلب ثم عاد إلى بغداد ، والنص التالي يرسم بعض النشاط الذي قام به ،
ويبدو أن أمثاله يقومون به :
«وابن
البر فطي هذا أوحد عصرنا في حسن الخط ، والمشار إليه في التحرير ، قد تخرج به خلق
كثير، وسافر إلى دمشق ، وكتب عليه كتابها ؛ وأقام بحلب مدة مديدة ، ثم عاد إلى
بغداد .
وحفزه
السفر إلى تستر صحبة الأمير ابن أبي محمد الحسن ، وأبي عبد الله الحسيني ، ابني
الأمير الملك المعظم أبي الحسن علي بن الإِمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد
أمير المؤمنين ، لما ولاهما أرض خوزستان بعد موت أبيهما أبي الحسن علي ، تقدم إلى
ابن البر فطي بالخروج في خدمتهما ، والسكون في جملتهما ليكتبا عليه ، ويصلحا خطهما
به ، ويكون معلمًا لهما».(3)
وهكذا
بلغت العناية بالخط مبلغها ، إذ استعان رجال مثل هذين الرجلين بمثل هذا الخطاط
المشهور، وأخذاه معهما لينقطع لتعليمهما الخط وتحسينه .
والقصة
الآتية طريفة ، تري أهمية خط ابن البواب ، وشغف الناس بخطه ، ومدى البحث عنه
واقتناء شيء منه ، ودفع ثمن عال مقابل الحصول على قطعة منه . وفي القصة فوائد أخرى
تذكرنا بما يجري اليوم مع التحف من أن هناك من يبيعها جاهلاً قدرها وقيمتها ،
وهناك من يشتريها عارفًا قدرها ، وقيمتها ، ولمحة عن الخُلُق في ذلك الزمن ، ويقظة
الضمير، ومحاولة نقائه ، بالبعد عن الغش والخداع في بضاعة من السهل فيها أن يُخدَع
المرء أو يَخْدَع :
قال
الراوي :
«بلغني
عن رجل معلم في بعض محال بغداد أن عنده جُزَازًا كثيرًا ورثـــه عن أبيـــه ، فخيل
لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة ، فمضيت إليه ، وقلت له :
أحب
أن تريني ما خلف لك والدك عسى أن اشتري منه شيئًا .
فصعد
بي إلى غرفة ، وجلست أفتش حتى وقع بيدي ورقة بخط ابن البواب ، قلم الرقاع ،
أرانيها أيضًا ، فضممت إليها شيئًا آخر لاَ حاجة بي إليه ، وقلت له :
بكم
هذا ؟
فقال
لي : ياسيدي ، ما صلح لك في هذا كله شيء آخر ؟
فقلت
له : أنا الساعة مستعجل ، ولعلّي أعود إليك مرة أخرى .
فقال
: هذا الذي اخترته لا قيمة له ، فخذه هبة مني .
فقلت
: لا أفعل ، وأعطيته قطعة قُراضة ، مقدارها نصف دانق .
فاستكثرها
، وقال :
يا
سيدي ما أخذت شيئًا يساوي هذا المقدار، فخذ شيئًا آخر .
فقلت
: لاحاجة لي في شيء آخر.
ثم
نزلت من غرفته ، فاستحييت ، وقلت : هذا مخادعة ، ولاشك أنه قد باعني ما جهله ،
ووالله لا جعلت حق خط ابن البواب أن يُشترى بالمخادعة ، فعدت إليه ، وقلت له :
يا
أخي هذه الورقة بخط ابن البواب ، فقال :
وإذا
كانت بخط ابن البواب ، أي شيء أصنع؟
قلت
له : قيمتها ثلاثة دنانير إمامية .
فقال
: ياسيدي ، لاتسخر بي ، ولعلك قد عزمت على ردها ، فخذها ، وحُطَّ الذهب .
فقلت
: بل أحضر ميزانًا للذهب .
فأحضرها
، فوزنت له ثلاثة دنانير، وقلت له:
بعتني
هذا بهذا ؟
فقال
: بعتك .
وأخذتها
وانصرفت».(4)
هذا
الموقف الطريف يكشف جوانب في حياة أهل الفكر في ذلك الزمن ، الذي لم يختلف كثيرًا
في بعض جوانبه ؛ فكثير من الأبناء اليوم عندما يموت سيد البيت ، ويترك مكتبة عامرة
بنوادر الكتب ، ونفيس المخطوطات ، ثم تباع في تركته بثمن بخس، أو تؤول إلى من لا
يعرف قدرها من أبنائه ، فتصبح يتيمة بين جدران بيته ، ومضاعة على رفوف المكتبة،
وقد تتبعثر بالبيع والاستعارة ، أو تأكلها الأرضة ، ويبليها الجو الفاسد حولها .
وعن
الآلات المستعملة للكتابة ، ومظهر العناية بها من قبل الناس والخلفاء ، واهتمامهم
بها ، والتفاتهم إليها ما ورد في النص التالي عنها :
«حدث
محمد بن الجهم السمري ، قال :
كنا
إذا أتينا الأحمر تلقانا الخدم ، فندخل قصرًا من قصور الملوك ، فيه من فرش الشتاء
في وقته ما لم يكن مثله إلا دار أمير المؤمنين ؛ ويدفع إلينا دفاتر الكاغد والجلود
، قد صقلت ، والمحابر المخروطة ، والأقلام والسكاكين».(5)
وكان
الخط مما يُفْرَد المرء بالمدح به إذا أتقنه ، ويوضع في مقدمة صفوف المتعلمين
وقواد الفكر، وهـــذا نص عن ابــن المبارك ، يبجــله ، ويعطيه حقه من التقـــدير،
ويبلغ ذلك مبلغــــه عنــدما يقارن بابن البواب، ويقرن به ، ابن البواب من المحاور
التي لا يتعداها المدح ، فهو يدور حولها ، ولا يبعد عنها :
«كان
المبارك بن المبارك بن المبارك – رحمه الله – فاضلاً زاهـــدًا عابــدًا ورعًا
إمامًا ، أوحــد زمانه في حسن الخط على طريقة علي بن هلال بن البواب .
وكان
ضنينًا بخطه جدًّا ، فلذلك قلّ وجوده ، كان إذا اجتمع عنده شيء من تجويداته يستدعي
طستًا ويغسله ، فأما إذا استفتي فإنه كان يكسر قلمه، ويجهد في تغيير خطه».(6)
ولا
يتبين لنا السر في هذا ، مع ان حسن الخط هبة فضلى من الله سبحانه وتعالى ، ونعمة
كبرى ضافية ، شكرها في إشاعة نورها ، كأن يكتب بها القرآن ، وينسخ بها الصحاح ؛ ولعل
السبب في فعله، ومحوه آثاره ، وطمس معالمها ، وحنقه على قلمه وكسره ، أنه خشي أن
يشارِكَ فيما قد يكون رأى أنه إثم ، فقد يكون الناس في احتفالهم بالخط دون فحواه
متعَبِّدين , العبادة لا تجوز إلا لله وحده، والمغالاة في تقدير الجماد قد تفضي
إلى نوع من تعلق القلب بها، وهذا قد يفضي إلى عبادة آثمة ، وهو ما التفت له
الإِسلام في الصور، التي عبدت في زمن الجاهلية ، ولا تزال تصرف لها العبادة في بعض
الأديان ، وفي بعض المعتقدات الوثنية .
ولعله
يرى أن المهم معنى النص ، وما احتوى عليه من إرشاد ، ما الخط إلا خادم له ، ووعاء
لحمله، والأمر يقلب رأسًا على عقب عندما يصبح الخادم سيدًا ، والحاوي محتوى ، وهذا
ما أرعب ابن المبارك ، وجعله يفعل ما فعله .
وحسن
الخط ، والسير على قواعده أحد مؤهلات الخطاط ، وأسباب الاعتراف به ، والإِقبال على
ما يكتب ، وامتداحه وشهرته ، وهذا علي بن منجب بن سليمــان الصــيرفي أبــو
القــاسم قيــل عنه ما يلي :
«علا
شأنه في البلاغة والشعر والخط ، فإنه كتب خطًّا مليحًا ، وسلك فيه طريقة غريبة».(7)
وهذا
يؤكد أن إتقان أصول الخط ، وحسنه ، لا يكفي لشهرة الشخص وبروزه ، ولكن لابد أن
يبتدع بجانب ذلك طريقة ينفرد بها ، تعطي خطهُ شخصية تميزه عن غيره ، بحيث يعرف ما
يكتب عما يكتبه غيره ، ويكون في ذلك من التميز ما يجذب إليه الأنظار ، وينسخ سمعة
من سبقه .
والورق
وأنواعه والعناية به مما أخذ حيّزًا واسعًا من تفكيرهم ، وأصبح لذلك أنواعًا ،
وللأنواع أسماء، ولصنعه طرق؛ ومن النص التالي يتبين لنا شيء من هذا ، ونعرف منه
مظهرًا من مظاهر العناية التي كانوا يولونها للورق وتجليده وتجميله ، مما جعله
يقاوم مرور الزمن ، وحوادث الأيام :
«قال
علي بن عيسى الربعي :
أخرج
إليّ عضد الدولة بيده مجلدًا بأدم ، مبطن بديباج أخضر في أنصاف السلطاني ، مذهب،
مفصول بالذهب بخط حسن».(8)
هذا
عن الكتاب وعن الورق وعن الحجم ، أما الكتابة التي يحتويها أمثال هذا المجلد
المعتنى به هذه العناية كلها ، فيمثل جزءًا منها النص التالي :
ورد
في ترجمة علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي (ابن الكوفي) :
«صاحب
الخط المعروف بالصحة ، المشهور بإتقان الضبط ، وحسن الشكل . فإذا قيل : نقلت من خط
ابن الكوفي ، فقد بالغ في الاحتياط .
قال
مؤلف الكتاب (ياقوت) : ورأيت بخطه عـدة كتب ، فلم أر أحسن ضبطًا وإتقانًا للكتابة
منه ، فإنه يجعل الإِعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطًا ، ويكتب على الكلمة
المشكوك فيها عدة مرارٍ : صح صح صح ، فكان من جماعي الكتب ، وأرباب الهوى فيها .
وذكره
ابن النجار في كتاب الكوفة .. قال .. الذي خَطُّهُ اليوم يؤتدم به ، وبيع جزازات
كتبه ، ورقاع سؤالاته من العلماء كل رقعة بدرهم».(9)
ولا
عجب أن يقال ما قيل في النص السابق من الحفاوة بمن يعتني بالخط وحسنه ، فالخط هو
الوسيلة الأولى لنقل العلم ، فكلما حسن زاد انجذاب القارئ إلى القراءة ، وقرأ
براحة وابتهاج ، وتوفر له بذلك الوقت والجهد ، مع إدراك منه بتعب الآخرين من أجله
، وسهرهم لراحته . وهم يقدرون الخط الواضح الحسن ، ويمتنّون لكاتبه ، لأن في ذلك
محافظة على العلم نفسه ، ودرء الزلل عنه عند القراءة ، ولهذا أشار النص إلى الميزة
التي اتصف بها ابن الكوفي ، هي واحدة من عدة ميزات، وهي «اتقان
الضبط»
وفي هذا وقاية من الخطأ بقدر جهد الإِنسان ، و «حسن
الشكل»
للجمال الجاذب المريح للعين وللنفس؛ وعاد وأكد ياقوت هاتين الميزتين بقوله : «فلم
أر أحسن ضبطًا وإتقانًا للكتابة منه»
، والجمال يؤكده قوله : «فإنه
يجعل الإِعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطًا، وفي هذا أيضًا إتقان للخط، وإبعاد
للزلل الذي يحدث من زحف الإِعراب وشكله من حرف إلى حرف ، ولا أدل من عنايته ويقظته
من كتابة : «صح»
عدة مرات .
وتأتي
قمة التقدير في قول المؤلف : إن خطه يؤتدم به ، وهو قول ليس بعده مزيد من المدح .
أما القيمة التي بيعت بها الجزازات فهي بلا شك مرتفعـــة ، ولكننا لا ندرك ذلك في
زمننا هذا ، لعدم تصورنا لقيمة الدرهم ، وما يأتي منه عندما يُشترى به .
وقد
يَرْمي النص التالي إشعاعًاعلى الأسعار لمن أراد أن يبحث ويقارن ، ولكن الجدوى لنا
محدودة، لاختلاف المعيشة اليوم ومستواها عن تلك الأيام ، اختلافًا يصعب معــه
تصــور القيمــة إلا لمتخصص في المال والأسعار ، ولكنه نص مفيد من بعض جوانبه :
«حدث
ابن عيسى الموصلي ... قال :
كتب
إليّ أبو تغلب يأمرني بابتياع كتاب الأغاني ، لأبي الفرج الأصبهاني ، فأبتعته له
بعشرة آلاف درهم ، من صرف ثمانية عشر درهما بدينار؛ فلما حملته إليه، ووقف عليه،
ورأى عِظَمَهُ، وجلالة ما حوى ، قال :
لقد
ظُلم ورّاقهُ المسكين ، وإنه ليساوى عندي عشرة آلاف دينار ، ولو فُقِد لما قَدِرَت
عليه الملوك إلا بالرغائب».(10)
إننا
نعرف هذا الكتاب ، وحجمه الكبير، ومجلداته المتعددة ، ونقدر الطبعة الحسنة ، التي
طبعته بها دار الكتب مثلاً ، ويمكننا أن نتصور الجهد اليدوي الذي بذل في كتابتها ،
ولهذا لا نستغرب ما قاله أبو تغلب عن تدني القيمة التي اشتريت به ، ونقدر إنصافه
لهذا الجهد ، بحيث وضع مكان كل درهم دينارًا .
وهذا
يري بعض الجهد الذي يبذله الوراقون في نسخ العدد من الكتب ، لمن يرغب شراءها ،
ولهذا مدح الخط الحسن ، لأن كثرة الطلب ، والإِلحاح ، عادة تؤدي إلى السرعة في
الانتاج ، أمام الإغراء ، على حساب النوعية والاتقان ، لأن العامل بشر، ويوشك مع
السرعة أن يكون أقرب إلى الزلل من الصحة ، وإلى قبح الخط من حسنه .
ولنفتح
نافذة صغيرة على جانب من عمل الوراقين ، ومقدار ما يكتبون ، والجهد الذي يبذلونه،
والسبب الذي أحيانًا يقودهم إلى حلبة هذا العمل ، فيمتهنونه ، على ما فيه من تعب .
والنص التالي يفيد في إعطاء فكرة عن ذلك :
«قال
أبوبكر محمد بن أحمد بن عبدالباقي الدقاق المعروف بابن الخاضبة :
لما
كانت سنة الغرق (466؟) ، وقعت داري على قماشي وكتبي ، وكان لي عائلة : الوالدة
والزوجة والبنت ؛ فكنت أورق الناس ، وأنفق على الأهل ، فأعرف أنني كتبت «صحيح
مسلم»
في تلك السنة سبع مرات ؛ فلما كان ليلة من الليالي رأيت في المنام كأن القيامة قد
قامت ، ومناديًا ينادي : «ابن
الخاضبة»
فأحضرت ، فقيل لي : ادخل الجنة ، فلما دخلت الباب ، وصرت من داخل ، استلقيت على
قفاي ، ووضعت إحدى رجليّ على الأخرى ، وقلت : آه ! استرحت والله من النسخ».(11)
إنه
لعمل مضن شاق ، لقد اضطر إليه ابن الخاضبة مرغمًا بعدما وقعت داره على ما يملك من
أثاث ورياش ، فاضطر أن يمتهن الوراقة بالنسخ ، ولأن عائلته – كما ذكر – ليست صغيرة
اضطر أن يبذل مجهودًا متواصلاً حتى يستطيع أن يحصل على ما يقيتهم ؛ ويتبين مدى
الجهد الذي كان يبذله في أنه عندما دخل الجنة في الحلم كان أول شيء خطر على باله
هو الراحة من النسخ ، بعد أن استلقى على ظهره وترك الهمّ خلفه ، وانسل من عمل
الدنيا .
وكانت
الوراقة مزدهرة ازدهار المطابع اليوم ، وكان للوراقين سوق رائجة ، فلديهم بيع
الكتب ونسخها ، وفي دكاكينهم يجتمع الأدباء والمفكرون، وقصة الجاحظ مشهورة ، فقد
روي أنه كان ينام في دكاكين الوراقين ، يقفلون عليه طوال الليل ، فيبقى هناك تتنقل
عيناه بين أسطر الكتب ، وتمرح نفسه في رياضها .
ولعل
الوراق يبدأ عمله ناسخًا ، ثم يستعين بمبتدئ ثم بآخر ، ثم يفتح دكانًا ويتفق مع
عدة خطاطين ونساخ ، فينسخ لحسابه بعض الكتب ويعرضها ، وينسخ بعض الكتب بطلب من
الناس . وفي الكتب ما يدل على عدد الوراقين ، ويصف عملهم بدقة وتفصيل .
وليتبين
لنا حاجة الناس إلى نسخ الكتب والجهد الذي يبذل ، نذكر طرفًا مما حدث بين أبي حيان
التوحيدي وأحد الكبار المسؤولين في الدولة ، وقد رجا أبو حيان رفدهُ ، فأراد هذا
استغلال حاجة أبي حيان ، فطلب منه أن ينسخ له بعض المجلدات ، فرأى أبوحيان أن هذا
فوق طاقته ، وتحت مستوى أمله ، فقامت على هذا عداوة بينهما، طار شرارها ، وذكى
أوارها :
«قال
أبو حيان التوحيدي :
وقصدت
ابن عباد بأمل فسيح ، وصدر رحب، فقدم إليّ رسائله في ثلاثين مجلدة ، على أن أنسخها
له، فقلت :
«نسخ
مثله يأتي على العمر والبصر ، والوراقة موجودة في بغداد».
فأخذ
في نفسه عليّ من ذلك ، وما فزت بطائل من جهته . فقال :
«بلغني
ذلك»
.
فقلت
له : ولو كان شيئًا يرتفع من اليد بمدة قريبة ، لكنت لا أتعطل ، وأتوفر عليه ، ولو
كرر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه ، فليس لمن وقع في شر الشباك ، وعين الهلاك ،
إلا الصبر».(12)
ولا
يكفي هذا الوصف من التعب ، ولا النفرة من النسخ بسببه ، فيعيد في مقام آخر قولاً
مؤكدًا عن الأمر نفسه ، ويوضح الشدة التي تنتطره لو قام بهذا العمل فيقول أخذًا من
قول أسهب فيه :
«فَلِمَ
تُعنَّى عيني – أيدك الله – بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة
والتصحيح ، وبالسواد والبياض؟».(13)
ومن
أراد المزيد في هذا الباب ، وعن أسباب العداوة بين أبي حيان والصاحب بن عباد ،
الذي قصده أبو حيان فخيّب أمله ، فليرجع إلى كتاب «أخلاق
الوزيرين»
ففيه تفصيل ضاف .
وقد
ألف كتابه هذا من حرقة أحسّ بها ، فصب جام غضبه عليه وعلى أبي الفضل بن العميد،
ومن المناسب أن نعطي مثلاً يري مدى ما وصل إليه غضبه على الصاحب بن عباد ، بسبب
طلبه منه نسخ مجموعة من مجاميع كتبه ، بدلاً من أن يبره كما كان متوقعًا ، وفاجأه
بأن استغل حاجته أسوأ استغلال :
يقول
أبو حيان في رسالة من رسائله :
«وما
ذنبي يا قوم إذا لم استطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا الكلب ؟!
حتى أعذره على لومي على الامتناع ، أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتعه
الله ببصره ؟ أو ينفعه ببدنه؟»
(14)
هذه
نافذة تُري الجهد الذي كان يصرف في النسخ ، والتعب والعناء الذي يأتي من ذلك ؛
فنحن اليوم عندما نمسك بمخطوطة نتذكر ذلك ، ونستعيد حيالها عدد الأعين التي تلفت
في النسخ ، والأعمار التي أفنيت في ذلك ، فتزيد قيمتها في نظرنا ، وتأخذ حقها من
العناية والرعاية ، والمحافظة عليها .
* * *
الهوامش :
(1)
معجم الأدباء : 17/280 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .
(2)
معجم الأدباء : 17/278 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .
(3)
معجم الأدباء : 17/279 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .
(4)
معجم الأدباء : 17/280 ، ترجمة : محمد بن أحمد الأنصاري الدسكري .
(5)
معجم الأدباء : 13/9 ، ترجمة : على بن الحسن الأحمر.
(6)
معجم الأدباء : 17/56 ، ترجمة : المبارك بن المبارك بن المبارك .
(7)
معجم الأدباء : 5/79 ، ترجمة : علي بن منجب الصيرفي .
(8)
معجم الأدباء : 14/84 ، ترجمة : محمد علي بن عيسى بن الفرج الربعي .
(9)
معجم الأدباء : 14/153 ، ترجمة : علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي .
(10) معجم الأدباء : 13/126 ، ترجمة : علي بن
الحسين الأصبهاني .
(11) معجم الأدباء : 17/228 ، ترجمة : محمد بن
أحمد الدقاق.
(12) معجم الأدباء : 15/13 ، ترجمة : علي بن محمد
بن العباس (أبوحيان التوحيدي) .
(13) معجم الأدباء : 15/23 ، ترجمة : علي بن محمد
(أبوحيان التوحيدي) .
(14) معجم الأدباء : 15/35 ، ترجمة : علي بن محمد
(أبوحيان التوحيدي) .
* * *
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس
2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.